لا يختلف اثنان من الأمة الإسلامية على أن في القرآن شفاءٌ ودواءٌ لأمراض وأدواء القلوب والأرواح والنفوس، وعلى ذلك شواهد كثيرة من القرآن نفسه، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”. [ يونس: 57]. وقال عزَّ مِن قائل: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا” [الإسراء: 82]. وقد دأب المسلمون على تلاوة القرآن تعبُّداً، وتقرُّباً إلى الله، وطلباً للشفاء أيضاً، وذلك فيه خير كثير لا شك.
أعتقد في رأيٍي المتواضع، أن شفاء ما في الصدور المقصود في القرآن، ينطبِقُ على قراءته من جهة، وعلى تطبيق المبادئ النفسية التي جاء بها النص القرآني من جهة أخرى. سنضرب مثالا في هذا المقال على تلك المبادئ النفسية من خلال دراسة وتحليل آية من الآيات التي تحتوي على إشارة نفسية لطيفة.
لِنتأمّل مُجتمعين أعِزّائي القُرّاء قَولهُ تعالى: “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (*) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” [الحديد: 22/23]
تحتوي هاتان الآيتان على كنز عظيم من كنوز الصحة النفسية، ومفتاح أساسي من مفاتيح الاستقرار النفسي. لِنرى كيف ذلك.
من المعلوم لدى العاملين في مجال علم النفس من أطباء وأكاديميين ومُختَصين أن أكثر الأمراض شيوعاً، هي الأمراض المزاجية والأمراض القَلَقِية، الأولى مرتبطة عاطفياً بالحزن، وزمنياً بالماضي، والثانية ترتبط عاطفياً بالخوف، وزمنياً بالمستقبل. فتجِدُ المُصاب بمرض مزاجي في الغالب يكون مكتئباً، ودائم الحزن والتفكير في أحداث من الماضي، بينما يشعر المُصاب بالأمراض القَلَقِية بالخوف الشديد والتفكير الدائم في ما سيقعُ مستقبلا.
يمكن القول أن أهم أسرار النفس البشرية التي يمكن أن تُنقِذَ الناس من عذابات الأمراض والاضطرابات النفسية، وتجعلهم يعيشون حياة صحية، ومتَّزِنَة، ومستقرَّة، هي عدم السقوط في فخ الماضي وأحزانه، وعدم الوقوع في شِراكِ المستقبل ومخاوفه. هذا المعنى الأساسي في الصحة النفسية الذي تقوم عليه مختلف مناهج وطرائق العلاج النفسي بمختلف مدارسها ونظرياتها وتياراتها المنصوص عليها في آلاف المقالات والكتب والمؤتمرات العلمية نجده مُختصَراً بشكل مُحكَمٍ ودقيق وبديع، في الآية الثانية من الآيتين المذكورتيْن، لِنُعِد الآن قراءتها بعد هذا الشرح البسيط، وسنكتشف المعاني العظيمة المُشار إليها فيها من خلال تقسيمها إلى قِسمين، أما الأول فهو: “لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ”، يتعلّق هذا القسم بالأمراض المزاجية التي يغلب عليها كما ذكرنا عواطف الحزن والأسى والاكتئاب، والقسم الثاني: “وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ”، يتعلق هذا القسم بالأمراض القلقية التي يغلب عليها الخوف والقلق والتوجس والترقب ممّا سيحدث مُستقبلاً، وقد جاءت صيغة في هذا المقام متضمِّنة للفرح، لأن الفرح بالشيء هو تعلُّقٌ قلبيٌّ به يوُرِثُ بالضرورة خوفاً وقلقاً من فُقْدانهِ.
نعود الآن إلى الآية الأولى: “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا”. الآن، نفهم أعزائي القُرّاء، أن سبب كتابة الأقدار خيرها وشرها، ليس التحكم في مصائر الناس كما يدّعي البعض، أو جَبْرِهِم على أفعال مُعيّنة مُسبَقاً، بل لطمأنة الإنسان على ماضيه ومُستَقبلِهِ أنهما مكتوبان ومعلومان ومُقدّران، وبالتالي لا حاجة للحزن على ما مضى، ولا الخوف على ما هو آتٍ، وفي ذلك تشجيع للناس على المبادرة والإقدام والإصرار والعمل والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله والتفويض له والرضا بالقدر خيره وشره، وفيه أيضا من الخير الكثير، ذكرنا منه في هذا المقام المفتاح الأساسي للصحة النفسية المذكور في الآية الكرية وهو: “عدم الحزن على الماضي، وعدم الخوف من المستقبل”.