مقالات وآراء

تأملات قرآنية في النفس البشرية ج10

الدبلوم المتكامل في الصحة النفسية

كلام الغضب وسكوته

ما أكثر ما تنتاب الإنسان حالة من الغضب تسيطرُ على مختلف مداركه، وتؤثر في مختلف استجاباته، فربما يرتفع معدل ضربات القلب، وربما ترتجف يداه، وربما يكفهرُّ وجهه، وغيرها من الأعراض العديدة للغضب، كما تؤدي حالة الغضب بصاحبها إلى التلفظ بأقوال، أو القيام بأفعال يسري أثرها مدى الحياة، فكم مِن غاضبٍ ألقى كلاماً قطعَ إحدى علاقاته لا سبيل إلى وصلها بعد ذلك، وكم من غاضب قام بتصرّف تأذّى على إثره أو آذى به أحداً، ولا نفع ساعتها للندم أو الاعتذار أو محاولة رأب الصدع.

ويكفي أن نذكر بخصوص خطورة الغضب على الإنسان وتبعاته السلبية، ما أوصى به  الرسول ﷺ أحد الصحابة بالتأكيد مرارا على تجنّب الغضب، فيما أخرجه البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أوْصِنِي. قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِراراً قَالَ: لَا تَغْضَبْ”.

وقد يكون للغضب، خصوصا ذلك المتكرّر، والذي لا يستطيع الإنسان التحكم فيه تبعات خطيرة على مختلف مناحي الصحة النفسية والجسدية، إذ يؤدي إلى أمراض خطيرة تطال القلب والشرايين والضغط الدموي والسكري، وكم من إنسان قتله الغضب.

أمّا بخصوص التناول القرآني لمسألة الغضب، فقد كان في غاية الدقة والعمق في التوصيف والتشخيص، إذ جعل القرآن للغضب كلاما وسكوتا، وذلك لعمري أبلغ ما يمكن أن يوصف به الغضب، إذا تأملنا الغضب نجده عبارة عن كلمات حادّة تدور في ذهن الغاضب ويعلو صوتها على أي صوت آخر، ممّا يجعل الغضب هو المتحكم في أفكار الغاضب وسلوكاته، وقد مثّلَ القرآن تلك الحالة في قصة النبي موسى عليه السلام، فلنتأمل أيها الأعزاء قوله عز وجل: “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْه…. (150) … (151) … (152) … (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ” (154) [ الأعراف: 150-153].

لننظر إلى حالة النبي موسى عليه السلام لمّا رجع غضبان، كيف أن خطابه لقومه كان حادّاً، وكيف أن تصرّفه مع أخيه كان عنيفا. وبعدما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح، كأنها إشارة إلى العودة إلى حالة الهدوء التي تستجلب بضرورة لين الخطاب والتعامل، “فإلقاء الألواح كان بسبب الغضب، وأخذها كان بسبب سكوت الغضب”. إذن، يمكن أن نفهم من خلال هذا التصور أن حمل الألواح لا يكون إلا في حالة تغليب صوت العقل، والاتزان في القول والفعل، بينما إلقاؤها دليل على سيطرة الغضب المؤدية إلى الحِدّة في القول والفعل.

في الأخير، نود التذكير بمسألة أننا لسنا بصدد تخطيء النبي موسى عليه السلام معاذ الله، إنما نحن بصدد وصف حالة الغضب وتأثيرها على الخطاب والسلوك، وهذا لا يتنافى مع الغضب لله ولدينه، فقد ثبت أن النبي كان يغضب إذا انتُهِكَت محارم الله، لكنه غضب شرعي، وفي حدود معقولة، وليس ذلك الغضب العارم الذي يودي بصاحبه إلى مشاكل صحية، وإلى مزالق حياتية من خلال أقوال وأفعال وقرارات مبنية على الغضب الذي نحاول أن نحذّر منه، وندعو إلى الوعي بمخاطره، وتجنّبه ما أمكن.

من قصص نجاح المشاركين في دوراتنا

عثمان سيلوم

باحث وكاتب روائي (المغرب)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
×