– مدخلان نفسيان للشيطان
من رحمة الله بنا أن خَلَقَنَا ولم يترُكْنا هَمَلا، بل بَيَّنَ لنا الغاية من خلقنا “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” [ الذاريات: 56]، وعرَّفَنا عزّ وجلّ بطريق السعادة وطريق التعاسة، “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” [ الإنسان: 3 ]. وأرسلَ إلينا الرسل حتى لا تبقى لنا حجّة بعدم معرفة أصلنا ومآلنا، “رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165]. وبما أن النفس البشرية تتأثر بالعِبَر المُضَمّنة في قصص، لأنها أقرب إلى الفهم، وأرسخ في الذهن من العبر والمواعظ المباشرة، فقد قصَّ ربّنا في كتابه العزيز قصص الأولين، لأخذ العبرة والموعظة، “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”. [يوسف: 111].
من القصص الذي ذُكِرت في أكثر من موضع من القرآن هي قصة أكل سيدنا آدم وزوجه من الشجرة المحرمة، وخروجهما من الجنّة، فقد مَنَّ الله على آدم وزوجه بأن أسكنهما الجنّة، “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا…” [ البقرة: 35]، ونهاهما عن الأكل من شجرة معينة، “وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” [ البقرة: 35]. وحذّرهما من الشيطان، “فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ” [ طه: 117].
لكن الشيطان استطاع أن يوقع بآدم وزوجه في عصيان أمر المولى عز وجل ليأكلا من الشجرة المَنهي عن الأكل منها، “فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ” [ الأعراف: 20 ].
العبرة التي نودّ التوقف عندها في قصة خروج سيدنا آدم وزوجه من الجنة، هي قدرة إبليس على التأثير على آدم وزوجه، رغم النعيم الذي يعيشان فيه، ورغم نهي المولى عز وجل عن الأكل من شجرة واحدة، ما الذي جعل إبليس يستطيع أن يؤثّر في آدم وزوجه، ومن بعده في البشر إلى يوم الناس هذا؟
قدرة إبليس على التأثير على الناس، وتوجيه قراراتهم وفق وسوسته مستمدّة من خبرته بالدوافع الكامنة في النفس البشرية، وأهم دافعيْن يعتمد عليهما الشيطان في إستراتيجيته “الإغوائية” هما “غريزة البقاء” و”غريزة الارتقاء”، أما البقاء فقد جسّده إبليس في: “تَكُونَا من الخَالِدين”، والارتقاء في: “تَكُونَا مَلَكَيْن”. فالإنسان مجبول على حبّ البقاء، والإصرار عليه، والعمل على تحقيقه مهما بدا مستحيلا، فرغم وعي الإنسان بأن عمره محدود، وأن الموت طائلُهُ لا محالة، إلا أن أفعاله تدلّ على الارتباط الدائم بالحياة على أساس “الخلود” وليس على أساس “الموت”، فلا يَكَلُّ الإنسان عن طلب الدنيا، ولا يملّ من التضحية في سبيلها بالغالي والنفيس. وقد مرّ معنا ذلك المعنى عندما تحدّثنا عن خطورة الأمل على الإنسان، الذي جعله الشيطان أساسا لإستراتيجيته الإغوائية، “ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ…” [النساء: 119].
أَمَّا دافع الارتقاء، فهو الآخر دافع أساسي من دوافع النفس البشرية، فدَأْبُ الإنسان البحث عن طُرُق التحسُّن، وسُبُل التطوُّر، وذلك شيء محمود في الأصل، لكنه يصبح مشكلاً إذا تحوّل إلى حالة عُصابية لا يحتاط الإنسان في وسائلها، فتجده يطلب الارتقاء مهما كانت طُرُقه، تحت المبدأ المعروف “الغاية تبرّر الوسيلة”، الأمر الذي يُسقط الإنسان في محظورات شرعية، ومزالق أخلاقية.
وسبب السقوط في تلك المحظورات والمزالق، هو قوّة تلك الغريزتان في النفس البشرية من جهة، واشتغال الشيطان على أساسهما في وسوسته من جهة أخرى، إضافة إلى عوامل أخرى كثير منها ذكرناه في مناسبات سابقة، كعدم كبح جماح النفس، وتلبية شهواتها التي لا تنضب.
وكما يُقال إن أول الغيث قطرة، فأول غيث الإنسان هو وعيه بمكامن قوته وضعفه، ومتى تسلّح الإنسان بمعرفة نفسه وخباياها ودوافعها؛ اهتدى إلى تجاوز نقاط الضعف، واستغلال نقاط القوة، من أجل الارتقاء في مراقي الفضيلة البشرية، والسير إلى الله سيرا جميلا، وهذه مناسبة لترسيخ الوعي بغريزتي “البقاء” و”الارتقاء”، والتفطّن لاعتماد الشيطان عليهما في تضليل الإنسان وغوايته وإسقاطه في السوء والفحشاء، والسبيل لغلق هاتين الثغرتيْن في وجه الشيطان هو التوكل على الله، والصبر على السلوك إليه، فقد حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات.