– تسرّع الإنسان في إصدار الأحكام
لا شك أن جائحة كورونا التي ضربت العالم هذا العام، كشفت عن ظواهر عديدة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، وغيرها من الأبعاد التي لا مجال لحصرها في هذا المقام.
من بين تلك الظواهر التي طفت على السطح مع أزمة كورونا هي عدم تحمّل الإنسان لعيش “حالة اللايقين” مع كورونا، ليلجأ الإنسان إلى إصدار أحكام متسرّعة على الجائحة تبدأ باعتبارها مؤامرة عالمية على الشعوب، وتصل إلى اعتبارها غضبا إلهيا مُسلَّطا على البشر.
ما يمكن أن نخرج به من تلك الأحكام التي أطلقها الناس من مختلف أرجاء العالم، وبمختلف خلفياتهم الثقافية أن الإنسان لا يتحمّل التعاطي مع مواقف الحياة دون أن يكون له رأي فيها أو تفسير لها، بل ينزع إلى تفسير مختلف الظواهر التي تحيط به سواء كانت له دراية واسعة بها، أو لا يعرف عنها إلا النزر اليسير، بمقابل ذلك النزوع الإنساني إلى التفسير، فإن الإنسان لا يملك الصبر الكافي لجمع أكثر عدد من المعطيات، أو رؤية الأمور من أكثر من زاوية.
إذا أردنا البحث عن هذه الظاهرة في كتابنا العزيز، نجدها في قصّة سيدنا موسى عليه السلام المذكورة في سورة الكهف التي تُعتبر من أكثر السور القرآنية قراءة واستماعا لدى المسلمين. لنتأمّل إذن الآيات المتضمنة لتلك القصة، ثم نخلص منها بمجموعة من التأملات التي تحاكي حالة عدم تحمّل اللايقين، والتسرع في إصدار الأحكام:
“قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) … (68) … (69) … (70) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) … (72) … (73) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) … (75) … (76) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82). [ الكهف: 66 » 82]
إذا توقفنا عند تفسيرات سيدنا موسى عليه السلام للمواقف التي واجهته، نجد فيها إشارات لطيفة عن طبيعة النفس البشرية التي تجنح إلى إطلاق الأحكام المتسرعة، وعدم التريث في جمع أكبر قدر من المعطيات، خصوصا عندما تكون النفس صالحة وتغضب لرؤية ما يُخالِف في ظاهره مقتضيات العدالة الإلهية. وقد رأينا التأويل الذي قدّمه “عبد الله الذي علّمه الله من لدنه علما” لتلك المواقف التي فسّرها سيدنا موسى عليه السلام تفسيرا مجانبا للصواب؛ نظرا إلى خفاء كثير من ملابسات تلك المواقف عنه.
إن الثمرة النفسية التي يمكن أن نخرج بها من قصة سيدنا موسى عليه السلام، هي التريُّث في التعاطي مع مواقف الحياة المختلفة، وعدم التسرُّع في إطلاق أحكام عليها لأن ذلك التسرّع قد يورثُ مشاكل على المستوى الشخصي من الدخول في حالة من الغضب، أو التوتر والقلق، وعلى المستوى الاجتماعي من دخول في خلافات وقطع علاقات. وقد يتجنب الإنسان كل تلك المشاكل إذا جنح إلى التريُّث في التعاطي مع مواقف الحياة، وعدم إطلاق أحكام غير مبْنِية على معطيات كافية، وقد لا يحتاج الإنسان في تجاوز بعض المواقف إلى تفسيرها أو الحصول على تبريرات لها تُرضي فضوله الفكري والعاطفي، لأن الوقوف عند مختلف التفاصيل، والسعي وراء تفسير كل ما يجري أمام الإنسان قد يُسقِطُهُ في حالة من التفكير الزائد على الحاجة، والقلق الدائم. ورحم الله من قال: “التغافل يطفئ شرّاً كثيرا”.