يخضع الإنسان في كثير من أحواله إلى مجموعة من “القوانين الداخلية”، و”العمليات النفسية” و”الديناميكيات العاطفية”. وقد تكون تلك القوانين، والعمليات والديناميكيات فطرية، مغروسة في النفس، أو مكتسبة من البيئة المحيطة. كما يمكن أن تكون صحية ومُتّزِنة، أو غير صحية تصل إلى حدود الاضطرابات والأمراض النفسية، وهي التي تحدّد مختلف جوانبنا وأبعادنا المتعلقة بالتفكير، والإحساس، والسلوك، وحتى استجاباتنا الجسدية في المواقف التي نتعرض لها طوال حياتنا.
من أهم تلك القوانين هو قانون “التركيز” الذي غالبا ما يُحدّد مصائرنا، فإمّا أن نحقّق به إنجازاً باهرا ونجاحا عظيما، أو نسقط بسببه في غياهب الفشل والاضطراب والحياة غير السوية. يمر قانون التركيز بمجموعة من المحطات بوتيرة متناهية السرعة، فيبدأ بالتركيز نفسه، حيث ينصرف فِكرُ الشخص وإحساسه في لحظة محدّدة على شيء معيَّنْ، وبما أن الذهن لا يستطيع أن يركز إلا في شيء واحد في اللحظة الواحدة، فإن الذهن من طبيعته إلغاء أي شيء آخر غير ذلك الشيء الذي يُركّزُ عليه، وبعد تحقّق ذلك الإلغاء، ينتقل الذهن إلى تعميم ذلك الشيء في وعي الإنسان ولا يجعله يرى أي شيء غيره، وسيصبح المُحدّد الذهني والعاطفي الأكثر استحواذا على حياة الإنسان، إلى أن ينصرف تركيزه إلى شيء آخر.
ربما يحتاج قانون التركيز هذا لمثال عملي حتى تتّضح صورته في أذهاننا. هب أنك رغبت في شراء قميص أزرق، عمليّا سيركّز ذهنك على القميص الأرزق، فستصبح ترى قمصانا زرق أكثر من ذي قبل، حيث ستبدأ في التركيز على قمصان الناس الزرقاء في البيت والشارع وفي المقهى وفي العمل، ثم ستبدأ باكتشاف وجود محلات ملابس أكثر من ذي قبل، وكلّما مررت بمحل ملابس ستبحث عيناك عن القمصان الزرق و”ستُلغي” غيرها من القمصان، ثمّ يتعمّم وجود القميص الأزرق في حياتك بدرجة تثير استغرابك، هذا هو ببساطة قانون التركيز: 1- تركيز. 2- إلغاء. 3- تعميم.
بعد شرح قانون التركيز، نأتي إلى مربط الفرس في هذا المقال، وهو التأمل القرآني الذي أتيتكم به، من هذا الكتاب الإلهي العظيم الذي لا يزال انبهاري في قمّته بأسراره العظيمة وأنواره المضيئة ومعانيه المتدفقة وعلومه الغزيرة. وجدت آية تشير إشارة لطيفة إلى قانون التركيز، وكأن المولى عزّ وجلّ استودع هذا القانون في كتابه بعبارة يمكن أن يستنبطها من له اضطلاع على قانون التركيز، بل قدّم المولى عزّ وجل ذلك القانون إضافة إلى مفتاح التحكّم فيه، ليبقى القرآن الكتاب الذي أعجز وما زال يعجز إلى يومنا هذا. الآية هي: ” وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ” [التوبة: 118]
انظروا أيها الأعزاء إلى هذه الصياغة البديعة العالية، فقد أشار ربنا إلى أن الأرض رغم شساعتها واتساع أفقها ورحابة رقعتها فقد ضاقت بأولئك الثلاثة، لأنهم وقعوا تحت سيطرة “قانون التركيز” لأنهم ركّزوا على المشكل الذي هم واقعون فيه، ثم ألغوا ما عداه من جوانب الحياة المتعددة، وعمّموا ذلك المشكل فلم يعودوا يعيشون أي جانب من جوانب الحياة غيره. كل هذا التفصيل والمحطات والعمليات اختصرها المولى عز وجل في عبارة: “حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ”، ويبقى رحمة الله أوسع من كل شيء، فقد نبّهنا إلى رحابة الأرض وشساعتها مهما ضاقت بنا في وعينا الخاضع لقانون التركيز، وذلك بعبارة: “ِمَا رَحُبَتْ”. وكأن الله تعالى يُنبّهنا إلى أنه مهما واجهنا في هذه الحياة من مصاعب وتحديات وإكراهات، ومهما ضاقت بنا الأرض أو ضاقت بنا أنفسنا، يبقى دائما هناك مجال للحل، وفسحة للأمل، ومكان للتجاوز والتحسّن.
لذلك أخي الكريم، أختي الكريمة، تأمل في هذه الآية النورانية، ورسّخها في قلبك وعقلك، وتذكّرها دائما عند الشدائد والمحن، وكن دائماً على وعي مهما حاول قانون التركيز أن يضيِّقَها عليك، أن هناك فضاءات أرحب من الضيق الذي أدخلك فيه.