يأتي الإنسان إلى هذه الحياة، ويعيش منها ما شاء الله، ويخرج منها دون أن يحقق جميع أمانيه، يُنفِقُ معظم وقته وصحته في سبيل أهداف متلاحقة لا تنتهي، فيبقى الإنسان مُعلّقاً بين السماء والأرض، يركض لاهثا ليُرضيَ نفسه، لكنه يصل إلى محطّة نهاية السير في هذه الحياة دون تحقيق كل الخطط والمشاريع.
إنّ مُعظمَ الأحوال والأمراض والمشاكل النفسية، من مخاوف وأحزان، وقلق واكتئاب، وإحباط، مردُّها إلى استسلام الإنسان أمام نفسه التي تأمر وهو يُطيع، تشتهي وهو يُلبّي، تتمنّى وهو يسعى، فيبقى قابعاً في دوامة مطالب النفس التي لا تملُّ ولا تكلُّ، إذ كلّما تحقّقت رغبة من رغبات النفس، إلا وطلبت زيادة أو تحسيناً أو تعدّداً وتنوعا، دون أن يكون للنفس منتهى في التخيُّل والتمنّي والاشتهاء. تلك هي حياة ذلك الذي يستطيع أن يُلاحق رغبات نفسه لكنه لا يستريح ولا يتوقّف عن الانشغال بطلباتها، فما بالك بمن تتمنّى نفسه ما لا يستطيع تحقيقَ ولو جزء يسير منه، ما ظنُّك بحالته النفسية؟ ما ظنُّك بشعوره؟ ما ظنّك بصحّته؟ أكيد أن أحواله ستكون متدهورة على مختلف المناحي العقلية والوجدانية والجسدية والاجتماعية.
والحقيقة التي يجب أن يعيها الإنسان، أنه لن يرتاح، ولن تستقر حياته، ولن يعيش سلاما داخليا، إلا بالوعي بحقيقة النفس البشرية، ومتى استطاع الإنسان أن يعي كيف تعمل رغبات النفس وأهواؤها وأمانيها، وجب عليه أن يحسم موقفه من السعي وراء تحقيق تلك الرغبات والأماني، لأنَّ السعي الدائم وراء ما تهواه النفس نوع من التأليه، وقد نهانا عن ذلك المولى عزَّ وجل في كتابه العزيز: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” [ الجاثية: 23 ] بعدما بيَّن ربُّنا أنَّ أكبر مآسي الإنسان هي تأليهه بنفسه واتباع الهوى، بيَّن لنا عز وجل سبيل منجاة الإنسان وطريق سعادته الدنيوية والأخروية قائلاً: “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ” [ النازعات: 40-41 ]. كما ترون أيها الأعزاء أنه تعالى دلّنا على سبيل منجاتنا المرتبط بنهي النفس عن الهوى، لذلك وجب علينا أن نهتدي بهذا القَبَسِ من النور الرباني ونجعله ممارسات عملية في حياتنا من أجل تحقيق الاستقرار والاتزان والسلام، فالإنسان “ينشغل بالحياة عن الحياة”، فلا هو عاشها ولا ذاق طعمها، ولا هو حقّق كل ما تطلبه النفس باستمرار.
وللتوضيح أكثر، نقدّمُ تشبيها بليغاً أتى به الإمام البصيري يبيّن طبيعة النفس البشرية في البيت التالي:
والنفسُ كالطفلِ إِنْ تُهمِلهُ شبَّ على *** حُبِّ الرّضاع وإن تفطِمْهُ ينفطمِ
لاحظوا أيها الأعزّاء تشبيه النفس بالطفل الرضيع، هل سمعتُم عن طفل انفطم من تلقاء نفسه، ودون جهد جهيد من الأم؟ طبعاً لا يوجد، فالطفل لا ينفطِمُ إلا بقرار حازم من الأم مع الصبر على صراخه وبكائه أول الأمر إلى أن يعتاد الانقطاع الرضاعة، كذلك هي النفس، فإن تركتها على هواها ستبقى تطلب وتتمنى وترغب وتتلذّذ دون توقّف، إلى أن يقرّر صاحبها تهذيبها، أو يتوفّاها الله إذا حان أجلها.
وإن اقتنعت بضرورة كبح جماح النفس، وكانت لديك العزيمة للسير في طريق تهذيب النفس، ولم تدرِ ما هي السبيل التي ستسلُك، فهاكَ مفتاحاً من المفاتح العظيمة قدّمه لنا الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في قوله:
والنفس تعلمُ أنِّي لا أُصادِقُها *** ولست أرشدُ إلّا حينَ أعصِيها
بيّن الإمام علي من خلال هذا البيت الماتع، أن سبيلك للرشد هو عِصيان أوامر النفس وشهواتها ورغباتها، فكُلّما كنت صديقا لنفسك ومطيعا لها؛ ألقتْ بك في مهالك الدنيا وحبائل الانشغال بها، فالحل إذن، هو عدم مصادقة النفس ومطاوعتها في كل ما تُريد، وهذا أمر قابل للتطبيق والقياس، حَسْبُكَ أن تنتبه إلى رغبات النفس ومدى تلبيتك لها، إذا كان مُعدّل التلبية مرتفعاً، فاعلم أنك واقع في فخ الإنسانية الكبير، وهو السعي وراء مطالب النفي التي لا تنتهي.
ليس مقالنا هذا دعوة إلى التخاذل، هو العيش بلا خطط ومشاريع مستقبيلة، فنحن أمة تعمل لدنياها كأنّها تعيش أبدا، لكن لنُميِّز أيها الأعزاء بين التخطيط العقلاني والعمل المتّزِن والصحي، وبين الركض ركض الوحوش وراء النفس ورغباتها. والآن بعدما عرفنا طبيعة النفس وسعيها الدؤوب نحو الرغبات، آن لنا أن نقرّر إمّا العيش بسلام وطمأنينة من خلال كبح جماح النفس، وإما الاستسلام لنزوات النفس التي إما أن تُمضي عُمرَكَ في السعي وراءها دون تلبيتها كاملة، وإما أن تلقي بك في ردهات المستشفيات بحثاً عن طبيب يشخّص حالتك، ويصف لك المهدّئات، عافانا الله وإياكم من أمراض البدن وأسقام النفس.