– التفكير الإيجابي في القرآن الكريم
تعلّمنا على يدي الدكتور محمود الراشد جزاه الله أحسن الجزاء، أن أغلب المشاكل النفسية التي يعيشها الإنسان نابعة من أفكاره المُشوَّهة عن المواقف والأحداث التي تقابله في الحياة، حيث إن تلك الأفكار التي لا تعدو كونها تفسيرات سلبية لهذا الحدث أو ذاك هي المُوَجِّه الرئيسي لمختلف ردود فعل الإنسان الوجدانية والسلوكية والجسدية، فمتى كانت الفكرة مشوهة والتفسير سلبي، ستتأثر بالتبعية الأبعاد النفسية الأخرى، ليعيش الإنسان على إثرها مشاكل تنغّص عليه عيشه وجدانيا وسلوكيا وجسديا، ويدخل في دوامة من المشاكل والاضطرابات تؤدّي به إلى التردّد على مُختلف المستشفيات والأخصائيين دون أن يجد حلّاً للمشاكل التي يرى أنّها عويصة، وأن حلّها مستحيل.
لكن إن استطاع التعرف بنفسه أو بمساعدة من له معرفة بالأمر، أن أصل كل مشاكله هو طريقة تفكيره التي تغلبُ عليها السلبية سواء في المبالغة في حساب المخاطر، أو التهاون في التعاطي مع تحديات الحياة، أو الانطلاق من فكرة مغلوطة عن حدث مُعيّن تجُرُّ وراءها ردود فعل غير مناسبة على مختلف المستويات النفسية التي إذا أردنا أن نضرب لها مثالا، فهي كقِطَع الدومينو المصفوفة، أول قطعة منها هي الفكرة المُفسِّرة إذا سقطت ستسقط من ورائها كل القطع المتكوِّنة من الشعور والسلوك والاستجابة الجسدية.
وبعد تأمّل في بعض آيات القرآن من هذه الزاوية، اتّضح أنه زاخر بسرد نماذج من ردود الفعل الإنسانية التي كانت الفكرة الأولية لأصحابها هي العامل الحاسم في تحديد طبيعتها ومسارها. قال تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ** فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ” [آل عمران: 173-174]. انظروا أيها الأعزّاء إلى الموقف الذي واجهه المؤمنون عندما جاءهم الناس وأخبروهم باستعداد العدو لهم، لكن بدل أن يكون تفسير المؤمنين سلبيا بالقول أنهم سيُغلبون أو سيؤذَوْن، كان تفسيرهم إيجابيا؛ فانعكست تلك الإيجابية على مختلف المستويات، وكانت كلماتهم إيجابية وهي: “ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”. وانعكس ذلك على شعورهم: “ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا”. وكانت النتائج إيجابية: “فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ”. كما كان السلوك إيجابيا: “ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ”. هذا ما يُبيّن لنا قيمة الأفكار الأولية التي نستقبل بها أي موقف يواجهنا ومدى انعكاسها على مختلف المستويات النفسية.
مثال آخر من القرآن الكريم، يوضّح مساريْن مختلفيْن من ردود الأفعال، وكيف كانت الأفكار الأولية لكل فريق حاسمة في تحديد طبيعة مواجهتهم للتحديات: “فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” [البقرة: 243]. انظروا أيها الأعزاء، كيف أن فريقا من الذين جاوزوا النهر مع “طالوت”، حينما رأوا جيش “جالوت”، كيف كانت أفكارهم التي فسّروا بها الموقف سلبية، إذ: “قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ”، فأسقطهم التفسير السلبي في حالة من الخوف أثرت على عزيمتهم القتالية. بينما كان تفسير الفريق آخر إيجابيا إذ: “ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”. وقد تحقّقت إيجابية هذا الفريق عمليا من خلال هزيمتهم لجيش “جالوت”، طبعا بفضل من الله وتوفيق منه.
قد يسأل المرء عن كيفية تعويد نفسه على التفكير بطريقة إيجابية والابتعاد عن التفسيرات المشوّهة والسلبية، والجواب أن القرآن عامر بمبادئ التفكير الإيجابي إذا رسّخها الإنسان في ذهنه وتمرّن على استحضارها الدائم، وجعلها مُوَجِّهات رئيسية لطريقة تفكيره، جنى ثمارها سريعا، واتزنت حياته النفسية واكتسب مناعة فكرية تساعده على مواجهة مصاعب الحياة وتحدّياتها. فمثلا نجد في القرآن الكريم مبدأ مهمّاً هو: “عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” [البقرة: 216]. كن على يقين أنك إذا رسخّت هذا المبدأ في ذهنك ولم تقتصر على تلاوته وترديده، فإنك ستتخطّى به مصاعب كنتَ بالأمس القريب لا تدري كيف تتعامل معها.
كما نجد في السنة العطِرة للنبي ﷺ مجموعة من المبادئ التي نحتاج التزوّد من أنوارها مثل ما يوجد في الحديث التالي: عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: “عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ”. رواه مسلم.
وكلّما وسّعت النظر بالكتاب العزيز والسنة الشريفة، وما يزخران به من النماذج الإنسانية التي تأثّرت مصائرها بطرق تفكيرها وتفسيرها بالمواقف، بالقطع ستجد مفاتح ومبادئ نفسية بمختلف أبعادها الفكرية والشعورية والسلوكية والجسدية، تُعلّمك التعامل مع مواقف وأحداث الحياة المتنوّعة والمتعاقبة والمتسارعة، وتمنحكَ مناعة تُحصِّنُك من السقوط في السلبية، وتُكسِبُك القدرة على توجيه أفكارك وتفسيراتك للأحداث. إذن لا عذر لنا بعد اليوم، في عدم استعمال هذه المبادئ النفسية العظيمة، ولا يجب أن ننسى في هذا المضمار، أن المفتاح العملي الرئيسي هو التكرار ثم التكرار، والتدرب ثم التدرب. ولنتذكّر قوله تعالى: “إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا” [الكهف: 30].