الحالة النفسية المُصاحِبة لاتّخاذ القرار
في الغالب ما تكون محصِّلة حياة الإنسان -بمشيئة الله- عبارة عن مجموعة كبيرة من القرارات التي اتخذها الإنسان في مختلف التجارب الحياتية التي مرّت به. وكثيراً ما تتحدّد ملامح حياة الإنسان من فرح وحزن، ونجاح وفشل، ورخاء وشقاء على أساس طبيعة القرارات التي اتخذها ووضعها قيْد التنفيذ؛ ممّا يُوحي بمقدار التأثير الذي تُحدِثهُ قرارتنا في مساراتنا الحياتية المختلفة، والأهمية البالغة التي يجب أن نوليها لقراراتنا الحياتية صغيرة كانت أو كبيرة، مصيرية أو هامشية، رئيسية أو ثانوية.
بعد تأمل قرآني في مواضِعَ ذُكِرَت فيها مواقف اتّخَذَ بمقابلها بعض الناس قرارات حاسمة في حياتهم، يمكِنُ القول إن مَدار طرق اتخاذ الإنسان لقراراته يندرجُ ضمن صنفيْن، على أساسهما يتحدّد صواب القرار من خطئه. وقد حصرنا ذَيْنِكَ الصنفيْن تحت العنوانيْن التالييْن: 1- الشعور الآني.
2- الخبرة المُتراكمة.
1- الشعور الآني: نقصد بهذا الاصطلاح أن بعض الناس يتّخذون قراراتهم على أساس الشعور المُسيْطِر عليهم لحظة معينة، حيث إن الفرد من أولئك يدخل في حالة شعورية معينة: “فرح”، “حزن”، “غضب”، “توتر”، ثُمَّ يستحوذ عليه ذلك الشعور، ليتّخذ قراره تحت تأثيره، فتجد الفرد يتخذ مثلا قرار الارتباط بشخص ما لأنه في لأنه في لحظة معينة شعر بنوع من الانجذاب والانسجام. وفي لحظة أخرى يتخذ قرار الانفصال لأنه شعر بالتنافر والتعارض مع الشخص نفسه. هذا النوع من القرارات المرتبط باللحظة الشعورية دائما ما تكون تبعاته سلبية على حياة الإنسان. وأمثلة ذلك النوع كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى محدِّثا عن ذلك الصنف: “وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” [ الأعراف: 134-135-136 ]. انظروا أيها الكِرام كيف أنهم بنَوْا قرارهم الذي اتخذوه على أساس الشعور الآني، فلما أحسّوا بالخوف قرّروا أن يتوبوا ويومنوا بالله ليكشف عنهم الرجز، هذا القرار الأول. والقرار الثاني اتخذوه عندما شعروا بالطمأنينة لانكشاف الرجز، فنكثوا عهدهم وعادوا إلى ما كانوا عليه، فكان لذلك أثر وخيم عليهم وهو إيقاع العذاب بهم. مثال آخر يبيّن الفكرة نفسها عن طريقة اتخاذ القرار، قال تعالى: “وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ…” [ يونس: 22-23 ]. هأنتم أيها الأعزاء كما ترَوْن، حينما أحسوا بالخوف دعوا الله مخلصين ووعدوا بالشكر، وحينما أنجاهم الله وأحسوا أنهم في مأمن بغوْا في الأرض، إذن، يتبيّن من هذا المثال ارتباط كثير من الناس في اتخاذ قراراتهم باللحظة الشعورية التي يمرّون بها.
2- الخبرة المتراكمة: نقصد بهذا الاصطلاح الصنف الثاني الذي في الغالب ما تكون قراراته مبنية على أسس متينة لا تُغفِل أي جانب من جوانب الحياة والتجارب والخبرات التي راكمها الإنسان طول حياته أو سمع أو قرأ عنها، الأمر الذي يعود بالإيجاب على أصحاب هذا الصنف، فالفرد من هؤلاء إذا عرضه عارض يحتاج فيه إلى اتخاذ القرار، لا يرتكن إلى حالته الشعورية الآنية التي تنتابه كما يفعل الصنف المذكور أعلاه، بل يعتمد في اتخاذ قراره على أسس عقلانية، وعلى مبادئه الدينية والعلمية التي رسّخها في قلبه وعقله، كما يحاول أن يتأمل في الأمر من عدّة جوانب، لتجتمع لديه “رؤية شمولية”، يتّخذ على أساسها قرارته الحياتية، ولهذا الصنف أمثلة عديدة من القرآن العظيم، نذكر منها: “فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” [ البقرة: 249]. بنى أصحاب الموقف الأول رأيهم على الحالة الشعورية الآنية من الخوف حينما رأوْا الجيش المقابل. بينما اعتمد أصحاب الموقف الثاني على خبرة مُتراكمة مُنطلَقُها هو يقينهم بالله وأنهم ملاقوه، وأنه لا محالة سينصرهم، وبالتالي انفصلوا عن الحالة الشعورية اللحظية، وارتبطوا بخبرتهم المُتراكمة المبنية على مبادئ دينية مُترسِّخة في قلوبهم وأذهانهم وسلوكاتهم، الأمر الذي أدّى بهم إلى اتخاذ قرار شُجاع في لحظة يغلب عليها الخوف شعوريا. مثال آخر من القرآن الكريم: “وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” [البقرة: 45-46]. يمكن أن نأخذ عبرة متّصلة بموضوعنا من هاتيْن الآيتين مفادها أن الاستعانة بالصلاة والمداومة عليها أمرٌ يحتاج إلى اتخاذ قرار مبني على “خبرة مُتراكمة” أساسها الإيمان الراسخ بالله عز وجل، وإلا أصبحت ثقيلة كما هي ثقيلة بالنسبة لمن يتخذ قرار المواظبة على الصلاة بصفة عرضية، حينما يكون تحت حالة شعورية آنية، لكن سرعان ما يخرج منها إلى حالة شعورية أخرى، وهكذا يبقى يتنقل بين الأحوال الشعورية دون أن تكون له قاعدة ثابتة يبني عليها قراراته.
والآن، بعدما حاولنا قدر الإمكان تقصّي مواضع في القرآن الكريم توحي بالحديث عن طرائق الإنسان في اتخاذه للقرارات إزاء المواقف الحياتية المختلفة التي تواجهه، آنَ لنا أن ننهل من تلك الأنوار الإلهية في الكتاب العزيز، ونكرِّسها في طبائعنا المتعلقة باتخاذ القرارا، فإن كان المرء منّا يتخذ قراراته على أساس “الخبرة المتراكمة” فخيْر، وإن كان يتخذها على أساس “الشعور الآني”، فعليه أن يعقد العزم على تفادي التأثر اللحظي بهذا الشعور أو ذاك لحظة اتخاذه لقراراته، ولا ننسى أن التغيير لا يأتي بين ليلة وضحاها، إنما هو السعي والاجتهاد، والتكرار ثم التكرار. قال تعال: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” [التوبة: 105]