مقالات وآراء

فك رموز السلوك الإجرامي: دور التحليل النفسي

الدبلوم المتكامل في الصحة النفسية

لطالما شكّل العقل البشري حقلاً غامضًا ومثيرًا للاهتمام عبر العصور. عندما نقترب من فهم السلوك الإجرامي من خلال التحليل النفسي، نكشف عن أعماق مظلمة من نفسيتنا. فهل يمكن لمفاتيح التحليل النفسي أن توضح لنا لماذا يختار البعض الانخراط في الجريمة؟

لمحة تاريخية عن التحليل النفسي والجريمة:

من خلال الخوض في النسيج التاريخي للتحليل النفسي وعلم الجريمة، يُكشف لنا عن رواية غنية عن المصائر المتشابكة. وبعيدًا عن كونها مجالات معزولة، فقد نمت هذه المجالات وتطورت جنبًا إلى جنب، وغالبًا ما كان لها تأثير عميق على بعضها البعض. مع مرور الوقت، ظهرت نظرية التحليل النفسي لتقدم رؤيتها حول الفكر الإجرامي. ولم تؤد مساهماتها إلى اكتشافات رائدة فحسب، بل أثارت أيضًا مناقشات وجدالات حادة، حول الروابط العميقة بين النفس البشرية وجذور السلوك الإجرامي.

المعتقدات القديمة:

قبل علم النفس الحديث، كانت العديد من الحضارات القديمة مثل اليونانيين والمصريين تنسب السلوك الإجرامي إلى العقوبات الإلهية أو الاستحواذ بواسطة الأرواح الشريرة. لقد اعتقدوا أن العقل يتأثر بالقوى العليا، وأن السلوكيات، بما في ذلك السلوكيات الإجرامية، هي نتائج مباشرة لهذه التدخلات الإلهية.

ظهور الطب النفسي المبكر:

كانت فترة النهضة وعصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر بمثابة بداية محاولات فهم العقل البشري علميًا. كان يُنظر إلى السلوك الإجرامي ببطء على أنه نتيجة محتملة للاضطرابات العقلية وليس مجرد إخفاقات أخلاقية أو أسباب خارقة للطبيعة.

دور الهوية والأنا والأنا العليا:

الهو: يمثل هذا المكون الأساسي دوافعنا الأساسية: الجوع والعطش والجنس والعدوان. إنه يسعى إلى الرضا الفوري دون النظر إلى الأخلاق أو عواقب الأفعال. في عالم الإجرام، قد تدفع الهوية غير المقيدة الشخص إلى ارتكاب أعمال متهورة أو عنيفة أو منحرفة من أجل الإشباع الفوري.

الأنا: باعتبارها “الواقعية” في النظام، غالبًا ما تتوسط الأنا بين رغبات الهو والقيود الأخلاقية للأنا العليا. ويهدف إلى رفاهية الفرد على المدى الطويل، ويسعى إلى إشباع رغبات الهوية بطريقة أكثر قبولًا اجتماعيًا. يمكن رؤية الأنشطة الإجرامية، مثل التخطيط الدقيق أو التلاعب، عندما تبرر الأنا أو تبرر السلوكيات لتحقيق رغبات الهوية دون إثارة غضب الأنا العليا.

الأنا العليا: تتكون الأنا العليا من القانون الأخلاقي للفرد، وغالبًا ما تتعارض مع الهوية. يمكن للأنا العليا المتطورة أن تمنع الفرد من ارتكاب الجريمة بسبب مخاوف أخلاقية، في حين أن الأنا العليا المتخلفة قد توفر مقاومة قليلة لدوافع الهوية.

صدمة الطفولة وأثرها على السلوك الإجرامي:

افترض فرويد أن التجارب المبكرة تشكل شخصية الفرد وسلوكه. يمكن للأحداث المؤلمة، مثل سوء المعاملة أو الإهمال أو مشاهدة العنف، أن تعطل النمو النفسي الصحي. قد تؤدي مثل هذه الأحداث إلى صراعات داخلية لم يتم حلها، مما يجعل الفرد أكثر عرضة للعدوان أو الاندفاع أو السلوكيات الأخرى المرتبطة بالإجرام.

كيف يبرر العقل الجريمة؟

لإدارة القلق أو الشعور بالذنب أو الصراعات الداخلية، تستخدم الأنا آليات دفاعية مختلفة. وتشمل هذه:

-الإنكار: رفض الاعتراف بحقيقة الموقف.

-التنبؤ: إسناد الصفات السلبية للآخرين.

-التبرير: تبرير الأفعال غير الأخلاقية أو الضارة من خلال الاستدلال المنطقي.

في سياق الجريمة، قد يستخدم الشخص هذه الآليات للتعامل مع الشعور بالذنب أو الصراع الداخلي الناجم عن أفعاله، مما يمكنه من مواصلة سلوكه دون شعور بالذنب أو القلق.

عقدة أوديب والسلوك العدواني:

تشير عقدة فرويد أوديب إلى أنه بين سن 3 و 6 سنوات، قد يتطور لدى الطفل انجذاب جنسي غير واعي تجاه أحد الوالدين من الجنس الآخر. يمكن أن تؤدي المشاعر التي لم يتم حلها والعواطف المكبوتة في هذه المرحلة إلى عدوان كامن، وفي بعض الحالات، تظهر في سلوكيات عنيفة أو مهيمنة في علاقات البالغين.

دافع الموت: سلوكيات التدمير الذاتي والأفعال الإجرامية

قدم فرويد مفهوم “ثاناتوس” أو دافع الموت، مما يشير إلى دافع فطري نحو تدمير الذات والفوضى. في بعض الأفراد، قد لا يتجلى هذا الدافع في إيذاء النفس فحسب، بل أيضًا في إلحاق الأذى بالآخرين أو البحث عن مواقف فوضوية أو مدمرة.

أمثلة واقعية لعوامل التحليل النفسي في الجريمة:

غالبًا ما يُعتبر مصدر إلهام للقتلة الخياليين مثل نورمان بيتس (سايكو)، ويمكن إرجاع جرائم جين إلى علاقة متعجرفة مع والدته، وربما مرددًا صدى عقدة أوديب.

تيد: قاتل متسلسل يتمتع بشخصية كاريزمية يستخدم آليات الدفاع مثل الإنكار والتبرير للانفصال عن جرائمه وحتى اعتبار نفسه بريئًا.

جيفري دامر: يمكن تحليل جرائمه المتمثلة في أكل لحوم البشر والقتل من خلال عدسة دافع الموت، نظرًا لهوسه بالموت والسيطرة على ضحاياه.

تُعد دراسات الحالة هذه بمثابة أمثلة واقعية لكيفية تطبيق نظريات التحليل النفسي الفرويدي لفهم التعقيدات الكامنة وراء السلوكيات الإجرامية، كما يؤكد هذا الاستكشاف الأعمق على التأثير العميق لنظريات فرويد على فهم السلوك الإجرامي، ويقدم رؤى دقيقة حول الجذور النفسية للانحراف.

الأسس السلوكية للسلوك الإجرامي:

ترتكز المدرسة السلوكية لتحليل السلوك الإجرامي على الاعتقاد بأن السلوك، بما في ذلك السلوك الإجرامي، يمكن تعلمه ويمكن فهمه والتنبؤ به وتغييره من خلال دراسة الأفعال وردود الفعل التي يمكن ملاحظتها. يختلف هذا المنظور عن نظريات التحليل النفسي، التي تركز بشكل كبير على العقل اللاواعي والدوافع الداخلية. وبدلا من ذلك، تركز المدرسة السلوكية على الجوانب الملموسة والقابلة للقياس من السلوك، مع التركيز في المقام الأول على التفاعل بين الفرد وبيئته.

1. التكييف الفعال والجريمة: أحد المبادئ الأساسية للمدرسة السلوكية هو مفهوم التكييف الفعال (Operant Conditioning)، كما اقترحها بي إف سكينر، تشير هذه الفكرة إلى أن السلوك يتحدد من خلال عواقبه. تزيد التعزيزات الإيجابية (المكافآت) من احتمالية تكرار السلوك، بينما تقلل التعزيزات أو العقوبات السلبية من احتمالية تكرار السلوك. وفي سياق الجريمة، قد يرتكب الأفراد أفعالاً إجرامية لأنه تم تعزيزها في الماضي، ربما من خلال مكاسب مالية، أو شعور بالقوة، أو موافقة الأقران. وبدون عقوبات أو تدخلات فعالة، يمكن أن تستمر هذه السلوكيات.

2.النمذجة والتعلم الاجتماعي: تعتبر نظرية التعلم الاجتماعي لألبرت باندورا حجر الزاوية الآخر للمنظور السلوكي. افترض باندورا أن الأفراد يتعلمون السلوكيات من خلال ملاحظة الآخرين وتقليدهم. إذا شهد الشخص أن السلوك الإجرامي يُكافأ (أو لا يُعاقب عليه)، فقد يكون أكثر عرضة للانخراط في مثل هذه الأفعال بنفسه. تؤكد هذه النظرية على أهمية النماذج المجتمعية وتصوير وسائل الإعلام للجريمة.

3.البيئة والجريمة: تركز المدرسة السلوكية أيضًا بشدة على دور البيئة في تشكيل السلوك. يمكن للبيئات التي ترتفع فيها معدلات الجريمة، أو الافتقار إلى التعزيز الإيجابي للسلوك الجيد، أو التعزيزات السلبية المستمرة أن تخلق بيئة يُنظر فيها إلى الجريمة كخيار قابل للتطبيق. بالإضافة إلى ذلك، فإن التعرض المبكر للسلوك العنيف أو الإجرامي يمكن أن يجعل الفرد ينظر إلى هذه التصرفات على أنها طبيعية أو مقبولة.

4.تعديل السلوك والتأهيل: نظرا لتركيزها على السلوكيات المتعلمة، توفر المدرسة السلوكية أساسا لجهود إعادة التأهيل التي تهدف إلى تعديل السلوك الإجرامي. ومن خلال استراتيجيات مثل التعزيز الإيجابي للسلوك غير الإجرامي، والتدريب على المهارات، والتدخلات السلوكية المعرفية، يُعتقد أن الميول الإجرامية يمكن إعادة توجيهها، بل وحتى التخلص منها.

يقدم منظور المدرسة السلوكية بشأن تحليل السلوك الإجرامي عدسة يمكن من خلالها فهم الجريمة على أنها نتاج للسلوكيات المتعلمة، والتي تتأثر بشدة بالتفاعلات البيئية. فهو يوفر طريقًا ليس فقط لفهم أسباب ارتكاب بعض الأفراد للجرائم، ولكن أيضًا لتطوير التدخلات لمنع السلوكيات الإجرامية وإعادة تأهيلها.

التمييز بين الاضطرابات العقلية لدى المجرمين:

العصاب: تنطوي الاضطرابات العصابية على الضيق ولكن ليس الانفصال عن الواقع. ومن الأمثلة على ذلك اضطرابات القلق أو اضطراب الوسواس القهري. قد يرتكب الشخص المصاب بالعصاب جرائم بسبب مخاوف أو دوافع قهرية مبالغ فيها.

الذهان: الاضطرابات الذهانية، مثل الفصام، تنطوي على الانفصال عن الواقع. قد تدفع الهلوسة أو الأوهام أو التفكير غير المنظم الفرد إلى ارتكاب جرائم، خطيرة في بعض الأحيان، بسبب تصوره المتغير للواقع.

تأثير العلاقات المبكرة على الجريمة

إن علاقاتنا المبكرة، وخاصة مع مقدمي الرعاية، تشكل نفسيتنا. قد تساهم الارتباطات غير الصحية في تصور منحرف للعلاقات الشخصية، مما يزيد من احتمالية الميول الإجرامية.

وجهات نظر حديثة وانتقادات للفكر الفرويدي:

في حين أن نظريات فرويد تظل أساسية، فقد قام علماء النفس المعاصرون بتوسيع بعض الجوانب وتحسينها وحتى دحضها، مما يضمن فهمًا أكثر شمولية للعلاقة بين العقل والجريمة.

العلاج وإعادة التأهيل: مقاربات التحليل النفسي للسلوك الإجرامي

إن الكشف عن الأصول العميقة للسلوكيات الإجرامية يمهد الطريق لأساليب إعادة تأهيل أكثر دقة وفعالية. في مجال العلاج النفسي، أظهرت العلاجات التي تم تصميمها بدقة لمعالجة الصدمات الفردية أو الاختلالات المعرفية سجلًا واعدًا. مثل هذه الأساليب العلاجية المتخصصة لا تتعمق فقط في الدوافع اللاواعية والصراعات التي لم يتم حلها والتي قد تدفع الفرد نحو الإجرام ولكنها تقدم أيضًا نهجًا شاملاً للشفاء. ومن خلال هذه التدخلات المستهدفة، تم منح العديد من الأفراد ذوي السوابق الإجرامية فرصة لإعادة ضبط حياتهم، وتسهيل إعادة إدماجهم في المجتمع كأعضاء منتجين وواعين لذواتهم.

القيود والانتقادات: الخلافات المحيطة بالتحليل النفسي والجريمة

إن التحليل النفسي، على الرغم من عمقه العميق وقدرته على كشف الجوانب المخفية في النفس البشرية، إلا أنه لا يستثنى من التدقيق، خاصة عند تطبيقه على علم الجريمة. كثيرا ما يسلط المنتقدون الضوء على طبيعتها الذاتية بطبيعتها. نظرًا لأن تفسيرات التحليل النفسي غالبًا ما تعتمد على رؤى المعالج واستبطان المريض، فهناك مجال للتحيز والتنوع، وهو ما يعتقد البعض أنه قد يضر بموثوقيته في سياقات الطب الشرعي. بالإضافة إلى ذلك، في حين أن التحليل النفسي يمكن أن يوضح الدوافع النفسية الكامنة وراء السلوك الإجرامي، إلا أن هناك قلقًا واضحًا من احتمال استخدامه عن غير قصد لتبرير أو تبرير مثل هذه الأفعال. ويسلط هذا التوتر الضوء على المناقشة الأوسع نطاقا: فرغم أن فهم الأسباب العميقة أمر بالغ الأهمية، فإنه لا ينبغي له أن يقلل من المساءلة أو ينتقص من خطورة الأعمال الإجرامية.

الخلاصة:

سوف تستمر العلاقة المعقدة بين العقل البشري والأعمال الإجرامية لتكون موضوعاً محورياً للباحثين. ومع تعمق فهمنا، فإننا نقترب خطوة ليس فقط من فهم السلوك الإجرامي، بل من المحتمل كبحه أيضًا، ومن خلال فهم العقل، فإننا لا نكشف الألغاز الكامنة وراء الأعمال الإجرامية فحسب، بل نمهد الطريق أيضًا لتدخلات أكثر فعالية، مما يوفر الأمل في مجتمع أكثر أمانًا.

من قصص نجاح المشاركين في دوراتنا

د. محمود الراشد

أخصائي في مجال التقييم النفسي والتنبؤ، خبرة في التحليل النفسي لرسومات الأطفال واكتشاف ميولهم وطموحاتهم. قدم الدكتور محمود العديد من الدورات والورش التدريبية التي استهدفت الأخصائيين والمربين، واشتهر بقدرته على تحويل المعرفة العلمية إلى أدوات تطبيقية. يشغل الدكتور محمود منصب المدير العام المؤسس للأكاديمية الدولية للإنجاز، وهي مؤسسة تدريبية متخصصة في ماليزيا. بالإضافة إلى ذلك، فهو: عضو فاعل في رابطة الأخصائيين النفسيين المصرية (رانم) وعضو جمعية علم النفس الأمريكية (APA). عضو قسم المحللين السلوكيين في الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) A member of the Behavior Analyst Division in American Psychological Association (APA)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
×