في كلمات استثنائية أكد العالم الفيزيائي الرائع، ستيفن هوكنج، على ما يعكس في مضمونه “أهمية عميقة في مفهوم المعرفة وتأثيرها على وجداننا وأفعالنا”. يُظهر هذا القول القوي أنّ الجهل، رغم كونه تحديًا للمعرفة، ليس العدو الأكبر لنمو الفهم والوعي. بل هو وهم المعرفة، الاعتقاد الخاطئ بأننا نعرف أكثر مما نعلم فعلاً، هو ما يمكن أن يحول دون توسع أفقنا وتطور عقولنا.
هذا التحذير من وهم المعرفة يفتح نقاشًا مهمًا حول كيفية تقدمنا كأفراد ومجتمعات. هل نحن فعلاً نعرف ما نعتقد أننا نعرفه؟ هل نتجاوز الاعتقادات السطحية والمعرفة المحدودة لنفهم الأمور بعمق أكبر؟ وما هي العواقب السلبية التي يمكن أن يحملها وهم المعرفة على القرارات التي نتخذها وعلى توجهاتنا في الحياة؟
لنستكشف هذا المفهوم بمزيد من التفصيل ونلقي نظرة على كيفية تأثير وهم المعرفة على حياتنا اليومية ومدى أهمية التواضع واعترافنا بأنه ما زلنا في رحلة البحث المستمر عن المعرفة والفهم.
التعريف
اعتقاد الإنسان أنّه يعرف أكثر من معرفته الحقيقيّة أو الخلط بين الاطلاع والمعرفة أي يظنّ أنّه يعرف كلّ شيء عن موضوع معيّن، كما فتنة العِلِمْ في سورة الكهف (موسى عليه السلام والخضر)، حيث كان جواب موسى لدى سؤال أحدهم له من أعلم من في الأرض، فقال أنا، …. وجاء خلال القصة أنّ عصفوراً وقع على حرف السفينة، ثمّ نقر في البحر نقرةً أو نقرتين، فقال الخِضِر لموسى عليه السلام: مَا عِلْمِي وَعِلْمك فِي عِلْم اللَّه إِلَّا مِثْل مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُور مِنْ هَذَا الْبَحْر … إلى آخر القصة.
تجربة السحّاب
في دراسة “وهم الفهم”، لواحدة من الجامعات الأمريكيّة، طُرح على المشاركين أسئلة بسيطة جداً، بحيث يُعطي المشارك نفسه رقماً من 1 – 7 تبعاً لمدى فهمه لطريقة عمل سحّاب الملابس والحقائب، وكان السؤال، كيف يعمل السحّاب؟، قدّم وصفاً مُفصّلاً لخطوات عمل السحّاب؟ ومن ثمّ أُعيد القياس مرة أخرى بعد محاولة كل منهم شرح وصفه وعجزه عن التوضيح التام، فكانت النتيجة أن أعطوا لأنفسهم درجات أقل من السابقة … فكانت النتيجة أنّنا نعرف أقل ممّا كنّا نعتقد.
مستويات الإدراك
يُقسم الإدراك إلى عدّة مرتب هي:
- العِلِم أو اليَقين: وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، ونسبة الصواب فيه هي: 100 % أي صحيح تماماً.
- الظن: وهو إدراك الشيء مع احتمال أعلى لصحته، ونسبة الصواب فيه 51 – 99 %، أي غالباً صحيح.
- الشك: وهو إدراك الشيء مع احتمال مساوٍ، ونسبة الصواب فيه 50 %.
- الوهم: وهو إدراك الشيء مع احتمال أعلى لخطأه، ونسبة الصواب فيه 1 – 49 %، أي غالباً خاطئ.
- الجهل البسيط: وهو عدم الإدراك بالكليّة، ونسبة الصواب فيه 0 %، أي لا يعرف ما هو الصحيح، وما هو الخطأ.
- الجهل المركّب: وهو إدراك الشيء على وجه يُخالف ما هو عليه، ونسبة الصواب فيه أقل من 0 %، أي يعرف بشكل خاطئ تماماً، كما وصف لنا الله تعالى إدراك قوم فرعون لدعوته: “قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أرى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” … “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ”.
كذلك لليقين ثلاث مراتب وهي:
- علم اليّقين: وهو المعرفة والتّصديق بالأمر بشكل قطعي 100 %.
- عين اليّقين: رؤية هذا الأمر بالعين.
- حقّ اليّقين: تجريب الأمر.
بعض دوافع الوهم
- الخوف من قول لا أعرف: ألا تُلاحظ نفسك أحياناً أمام أسئلة الأطفال المتكررة، أنّك لا تعرف وأحياناً تختلق الإجابات، كما أنّنا فقدنا فضول استكشاف الأسباب والتّحقق منها كون أمور الحياة أصبحت معقدة أكثر، كذلك عندما تكون مديراً أو مُعلّماً أو …
- تعقيد المعلومات: معظم الناس غير أهل الاختصاص، يسمعون كلاماً عن موضوع معيّن، فيفهمون أقل من عُشره، وهذا العُشر يخضع للتبسيط والتعديل حسب معلومات الشخص، ثمّ يقوم بنشره على أنّه باحث أو مُتابع لهذا الموضوع، كما في قوله تعالى: “وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي”.
- الميل للاختزال: يميل البشر بطبيعتهم إلى استبدال الكيانات المعقدة بالأفراد، أي أنّهم يُفضلون فرداً أو عدد قليل من الأفراد في المؤسسة، فمثلاً بلغ عدد صفحات قانون الرعاية الصحيّة الأمريكي الجديد حوالي 20 ألف صفحة، وساهم بصياغته عشرات الأشخاص، لكنّه في النهاية سمّي بـ “قانون أوباما”، وعلى الأرجح أنّه لم يكتب أي سطر، وربما لم يقرأ أي صفحة، بل بكل بساطة وضع توقيعه فقط – وهذا ما يحصل في معظم أنحاء العالم –، حيث يتمّ تبجيل وتمجيد شخص معيّن أو عائلة أو مجموعة قليلة من الأفراد، رغم أنّهم ليسوا سوى رموز أو واجهات إداراتهم أو دولهم، يقول تعالى: “ولا تبخسوا الناس أشيائهم” ” إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها”.
- الأفكار المُسبقة: وهي ربط الحدث الذي يجري معك مع سبب أو نتيجة تعلّمتها مُسبقاً عن حوادث مُشابهة في الماضي، مثل هروب شخص عند مشاهدة كلب، بسبب تجربة سابقة لعضة كلب.
- الشّك في العلم: هو الاعتقاد أنّ المعلومات الحالية قابلة للتغيير أو تحتمل الخطأ أكثر، فيبقى الشخص على طريقة تصرُّفه أو معلوماته ريثما يتجلى الأمر تماماً، كما يحدث الآن في موضوع جائحة “فيروس كورونا”، إذا تظهر كل عدة أيام معلومات مُناقضة أو مُعاكسة لتصوّرات أو تصريحات سابقة عنه.
- الحفاظ على مظهر العَارف: أي الخلط بين الخـــــــــــــــــــبراء وما نعرفه، فحين تتاح لك معرفة ما يملكه الآخرون من معلومات، ستستشعر أنّ تلك المعلومات كان لها وجود في ذهنك قبل أن تُتاح لك معرفتها، ومن ثمّ ستتحدث عنها كأنّك صاحبها.
- الانحياز: لابدّ أنّك تُلاحظ خداع الإعلام للناس بشكل كبير، فهو يقنعك بأفكاره ويدفعك لتبنيها وفقاً لتوجهاته.
بعض الحلول
- إدراك وجود وهم المعرفة، يقول الشافعي: من ظنّ أنّه علم فقد جهل.
- البدء في رحلة استكشاف جهلك … رحم الله امرئً عرف قدر نفسه.
- التفكير الجماعي والمشاركة في حلقات النقاش.
- شارك في مُجتمعات التعلّم.
إذاً …. لا تكمن المشكلة في الجهل بحدّ ذاته، بل في عدم الاعتراف به، وأنّ العلم ثلاثة أشبار: ” إذا تعلّم الإنسان الشّبر الأول تكبّر وتوهّم المعرفة، ثم إذا تعلّم الشبر الثاني تواضع، ثم إذا تعلّم الشبر الثالث عَلِمَ أنّه لا يعلم شيئاً “، ومن هنا تعلّم سرَّ وجود المتكبرين، أنّهم لم يتجاوزا بعد الشبر الأول من العلم.