مقالات وآراء

المشاعر المعلقة

الدبلوم المتكامل في الصحة النفسية

هل حدث معك ذات يوم أن أكلت طعاما ما وأصبت بعدها بتلبك معوي؟ المعدة لم تهضم الطعام، ولسبب ما بقي كما هو تقريبا وبدأ يسبب مشاكل جمة، ذات الشيء يحدث في أحاسيسنا وعادة تحدث في المراحل الأولى من الحياة في الطفولة او بداية المراهقة تمر بنا أحداث تثير مشاعر قوية ولسبب ما لا يتم استيعابها والتعبير عنها بشكل طبيعي فتبقى غير مفهومة غير واضحة وتختبئ في الغرفة المظلمة حيث نخبئ كل ما نريد ان نتخلص منه على أمل أن ننساه وينسانا.

لكن كما يحدث في المعدة يحدث في مشاعرنا التي خبأناها ،تتعفن وتتحول لأشباح تطاردنا وتظهر بأشكال مختلفة. إنها فعلا فكرة غريبة  أنه ليس كل عاطفة نحملها معترف بها بالكامل أو مفهومة أو حتى محسوسة حقًا حيث توجد مشاعر في داخلنا بشكل “غير معالج” و قد تظل العديد من المخاوف ، على سبيل المثال ، منبوذة وغير مفسرة وتظهر نفسها على أنها قلق قوي بلا اتجاه ولا سبب محدد.



تحت تأثير هذه الأحاسيس ، قد نشعر بالحاجة القهرية للبقاء مشغولين ، أو نخشى قضاء أي وقت بمفردنا أو التشبث بأنشطة تضمن أننا لا نلتقي بما يخيفنا ( كالإنخراط في أعمال جماعية بشكل مفرط، أو تتبع الأخبار أو ممارسة الرياضة بشكل قهري ،أو تربية الحيوانات ايضا بشكل مفرط ).

كذلك يمكن أن نعتنق وسيلة أخرى للهروب من الألم، فقد يكون شخص ما قد أساء استخدام ثقتنا ، أو صدمنا بوجه آخر لم نتوقعه أو إنتهك تقديرنا لذاتنا ،و في محاولة منا للفرار من الاعتراف الصريح بالسذاجة والهشاشة الضعف، ندفن الجرح في مكان ما بالداخل وكأنه لم يكن، وعلى السطح ، نبتهج ونضحك وكأن لا هم بالحياة ونناشد وننادي بشعارات التفاؤل،( لكن البهجة المفرطة هي الحزن الذي لا يعّرف نفسه )، أو قد نخدر أنفسنا كيميائيًا أو نتبنى أسلوب السخرية من كل شيء وتسفيه كل شيء.

 نحن ندفع ثمناً باهظاً مقابل فشلنا في “معالجة” مشاعرنا بشكل صحيح و تصبح أفكارنا غير حقيقية لأنها مشوهة وغير واضحة  بفعل المخاوف الخفية.

نشعر بالاكتئاب بسبب كل شيء لأننا لا نستطيع أن نحزن على شيء ما ، لم نستطع ان نعطيه حقه في الحزن والتعبير عن مشاعرنا لذلك الشيء المحدد.

يهجرنا النوم ، فالأرق هو الانتقام  النفسي لكل الأفكار العديدة التي أغفلنا معالجتها بما تستحق خلال يومنا.

   ، وقد ولدنا للتعبير عن المشاعر بحرية وانفتاح  ومع ذلك ، في محطة ما في طريق حياتنا ، تعلم الكثير منا قمع المشاعر ، وخاصة تلك التي تعتبر “سلبية” أو غير مقبولة اجتماعياً ، و ذلك من أجل التأقلم وكسب الحب والقبول ممن هم حولنا سواء كانوا أهلنا أو مجتمعنا.

نفعل هذا غالبًا بالمشاعر الصعبة مثل الشعور بالخزي والعار أو الخوف أو الغضب. وعندما نمر بالأحداث التي تطغى علينا عاطفيًا ولا نتمكن من معالجة ما يحدث ، وتقبل مشاعرنا ، والتعبير عنها من خلال أجسادنا وعقولنا ، فإننا نخفيها بعمق داخلنا حيث لا يستطيع الآخرون رؤيتها، وينتهي بنا الأمر بإخفائهم عن أنفسنا أيضًا. ومع ذلك ، تلك المشاعر ما زالت هناك وتهجم حين لا نتوقعها.

سأعطيكم مثالاً لكيفية تكون هذه المشاعر الحبيسة او الغير مكتملة ؛

الكثيرون منا نشأوا في منازل كان شعارها أن “الأطفال لا يستوعبون فعلياً ما يحدث ، الأطفال ينسون بمجرد تلهيتهم بشيء ما ،الأطفال لا يفهمون” ، وفي المقابل  هناك القليل من التعبير العاطفي المسموح به عن المشاعر ، ناهيك عن القبول ولربما كان هناك عقاب لتعبير الطفل عن مشاعره. أغلبنا لم يكن هناك أحد  معه للتحقق من صحة هذه المشاعر  أو مساعدته في التعامل معها بطريقة صحية و صحيحة.

أغلب الأحيان قابل والدانا  الغضب بالغضب ، والبكاء بالصراخ ، و وأدوا خوفنا دون الاعتراف به ، وكان هناك دائماً كلمة “عيب” تتأرجح في كل مكان حيثما يحتاج الطفل التعبير عن مشاعره؛ عيب ان تبكي أنت قوي، عيب أن تخاف، كان العار لمن يعبر عن مشاعره والمجد لمن يحسن دفنها وإخفائها.

الكثير من الأهل لم يكونوا مهيئين لكيفية التعامل مع المشاعر الصعبة ، فقد كانوا يكافحون مع ذلك بأنفسهم.

وعندما تظهر تلك المشاعر الممنوعة المحرم ظهورها ، يشعر الشخص غالبًا بالارتباك وعدم الكفاءة ، والخجل من فشله في أن يكون ” جيداً” حسب مقاييس والديه.

من هنا وفي هذه المحطة نتعلم أن ندفن ألمنا في أعماقنا ، نخبئه بعيدا عن انظارنا. و هنا أيضًا يبدأ الإحساس بعدم الرضا عن النفس ، ومشاعر خجل ، وغضب ، و وحدة ، والعجز عن  طلب ما نحتاجه لأن كلمة العيب لازالت تصرخ هناك بالأعماق و في محاولة لإخفاء الألم – عن أنفسنا وعن الآخرين –  نبني الجدران ، ونرتدي مئات الأقنعة حتى نصدق انه لا يوجد ألم.

ومع الوقت نتفنن ونبدع في رسم اقنعتنا ولكن بمجرد ان تأتينا الحياة بحدث شبيه لمصدر الألم ،سرعان من تفتح الجروح القديمة وتنهار قلاعنا وأقنعتنا الورقية وتظهر أشباح المشاعر المعلقة المكبوتة على أشكال مختلفة ،صداع دائم ،قلق غير واضح المنشأ ،آلام ظهر مزمنة ،عرق النسا ،نوبات هلع ،اكتئاب غير واضح.

تعفن الطعام في المعدة ظهر على هيئة نوبات قئ أو إسهال ارتفاع حرارة والغثيان وتنتهي بمجرد خروج هذا لطعام الذي لم يتم هضمه بشكل صحيح ،بينما المشاعر المتعفنة أصعب حيث تتشكل وتتلون بين أعراض جسدية ونفسية والتخلص منها ليس بنفس السهولة.

في الحقيقة  نحن جميعًا نخفي مشاعرنا من حين لآخر و نتظاهر بعكس ما نشعر ونتجنب وننكر المشاعر غير المريحة في محاولة للحفاظ على الذات كآلية للدفاع.

تُسجن المشاعر التي لم يتم  حلها في أجسادنا  حيث تتراكم و تتكاثر ، مما يؤدي إلى إستنزاف طاقتنا ، وبالتالي يسبب لنا الإرهاق وعدم التوازن العاطفي ، وفي النهاية المرض. عندما نقوم بقمع المشاعر بشكل مزمن ، فإننا نخلق سمية في جسدنا وعقلنا وقلبنا.

 هذه الطاقة العاطفية غير المعالجة يتم تخزينها في أعضائنا وعضلاتنا وأنسجتنا، ومع تقادمها وتراكمها تؤدي إلى التهابات ومشاكل صحية مزمنة ، و هذا ما يعانيه الكثير ممن يعاني أعراضا جسدية لا تكشف الفحوصات المخبرية أسبابا لها.




هنا نحتاج الى وقفة ، نحن بحاجة إلى التعاطف مع أنفسنا قبل أن نتعاطف مع الآخرين وان نحرر أنفسنا من القيود اللامرئية.

من الطبيعي أن نتجنب معالجة هذه المشاعر المكبوتة المعلقة لأن ما نشعر به يتعارض تمامًا مع صورتنا الذاتية ، مما يهدد أفكارنا المجتمعية عن الحياة الطبيعية أو المقبولة ويتعارض مع من نود أن نكون والصورة التي نحب أن نظهر بها، فمن الصعب مثلا على ذلك الشخص القوي المسيطر أن يواجه هشاشته الداخلية ومخاوفة .

لا نتردد  في معرفة أنفسنا  بسبب الكسل أو انعدام الإحساس ، ببساطة فتح هذا الباب وهذه المعرفة يؤلم كثيرا، لذلك نضع دفاعات نفسيه كثيرة لحماية الغرفة المظلمة ،غرفة الأسرار.

 من أجل هذا تتطلب معالجة هذه المشاعر أصدقاء مقربين ثقة أو معالجين بارعين ولحظات طقسية مثل التأمل الفلسفي ،أو تمارين استرخاء حتى يمكن وضع دفاعاتنا الطبيعية جانباً بأمان .

قد تكون مرحلة صعبة ونمر فيها بفترة من الحزن او الحداد ولكنه ثمن بسيط مقابل الحرية النفسية وتقبل الذات.

الشفاء أو الخروج من هذه المشاعر هو عملية ضريبية. لنتذكر أن نمنح أنفسنا كل الرعاية والحب والرحمة التي سنمنحها لصديق يقوم بهذا العمل الشاق من تحرير الذات. لنقدم لأنفسنا التفهم والحب والرعاية، هذا عمل صعب ، ونحن نبذل قصارى جهدنا .

العواطف المكبوتة المعلقة تقف في طريقنا، وتعوق جهودنا لخلق الحياة التي نريدها وتجعلنا بائسين دائماً.

لننظر الى انفسنا ونسعى الى تحرير هذه الطاقة العاطفية العالقة في أجسادنا فهذا قد يغير حياتنا بطريقة إيجابية. إنه شفاء وتحرر. وأنتم تستحقون ذلك!

 

من قصص نجاح المشاركين في دوراتنا

د. أمنة الشامسي

طبيبة نفسية- سلطنة عمان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
×