توقفنا في المرة السابقة عند مسألة مهمة، وهي دور طُرُق التعامل ووسائل التعاطي في التخفيف من حدّة المشاكل والخلافات التي لا تخلو حياة أي شخص منها، ورأينا أن القرآن يشير إلى أن “الدفع بالتي هي أحسن” من أهم وسائل تجاوز الخلافات وفض النزاعات وتذويب جليد العداوات.
اليوم نتوقف عند أهمية طريقة التعامل في الحفاظ على العلاقات الإنسانية بمختلف أبعادها وتجلياتها، ابتداءً بالعلاقات الأسرية في أضيق الحدود وانتهاءً بالعلاقات الاجتماعية في أوسع حدودها.
أحيانا لا يفهم الإنسان التغيرات الطارئة على بعض المحيطين به، فمنهم من يتهرّب من الكلام معه أو المُكْثِ بجنبه، ومنهم من يتفطّن إلى بحثه عن الأعذار والحجج لإحداث خلاف معه، وربما هُجرانه والابتعاد عنه إلى أقصى الأقاصي؛ فيتساءل المرء مستغرباً ماذا فعلتُ لأستحق كل هذا الجفاء والتخلي والهُجران؟
لكن ذلك الشخص إذا توقّف هُنيْهة مع نفسه، سيجد أنه رغم عدم إساءته إلى المحيطين به إساءة بالغة، أو أنه يسعى في مصلحتهم، وأنه دائم الانشغال بحاجياتهم، وأنه لا يرجو لهم إلا كل خير، لكن مع كل تلك المشاعر النبيلة الكامنة في قلبه، إلا أنه دائم التّجَهُّم ولا يكاد يبتسم، يُمضي يومه عبوسا، لا ينطق إلا بالأوامر، ولا يُسمعُ منه قول ليِّن لأحد من أفراد أسرته أو مرؤوسيه في العمل، دائم الصراخ، يتسّم تعامله بالغلظة والشدّة، ويظن أن مسؤولياته وضغوط الحياة وتحدياتها وخوفه على من هم تحت رعايته هي مبررات كافية لتجعله يتعامل بهذا الشكل السيء.
نُخبِر ذلك الشخص أن حججه واهية، وأنها لا تبرر تعامله الغليظ مع الناس، وأنهم سينسحبون من محيطه عند أول فرصة سانحة بذلك، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه العزيز، أن انسحاب الناس والانفضاض من حول الشخص الغليط سُنّة ماضية في الخلق البشري، قال عز وجل: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ ” [آل عمران: 159].
انظروا أعزائي إلى هذه الإشارة الإلهية التي ربطت الفظاظة وغلظة القلب بانفضاض الناس من حول أي شخص يتّصف بها، وبالتالي فعلى المرء أن يحرص أيّما حرص على طريقة تعامله مع الناس من أقرب الأقربين إلى العلاقات السطحية العابرة، وليعلم الإنسان أنه لا غنى عن التعامل الطيّب والوجه السمح والبشاشة والقول الليّن، وإلا فإن هروب الناس وانفضاضهم من حولك آتٍ لا محالة.
قد يحتجّ المرء بقدر التضحيات التي يُقدّمها في سبيل تلبية حاجيات من هم تحت رعايته كأسرته مثلا، وأنه يستميت في خدمتهم وحمايتهم وعدم حرمانهم من أي شيء، وأن ذلك يكفي حتى يعذروا غلظته وصراخه وتجهّمه الدائم في وجوههم، ويتفهمّوا أن ذللك راجع إلى ضغوط العمل وإيقاع الحياة السريع، نقول له أيضا حُجّتك واهية، ويكفي أن نورِد قول الله عز وجل: “قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ” [البقرة: 263-264].
ألا ترى أنّ الله عز وجل وهو خالقنا وبارئنا ومصورنا وهو الأعلم بأحوالنا واحتياجاتنا وما فيه فلاحنا وصلاح أمرنا، نبّه إلى أهمية طريقة التعامل والتكلم في مقابل الصدقة التي يتبعها الأذى، بل ذكر عز وجل أن القول المعروف أي الليّن والسمح خير من تلك الصدقة التي يتبعها الأذى.
آن لنا أيها الإخوة والأخوات، أن نُعيد الاعتبار إلى أهمية طريقة التعامل في تدبيرنا لعلاقاتنا الإنسانية، وأن نتيقّن أنها ليست مسألة ثانوية، وأن الابتسامة والكلمة الطيبة أهم من الوجبة التي يوفّرها الأب أو الأم آخر النهار للأسرة بعد جهد جهيد، وأن الوجه الطلق والقول اللين أهم من كل المشتريات والمطالب التي يلبيها أرباب الأسر لأولادهم، وأن التعامل الرحماني والعطف والرِّفق أهم من الراتب الشهري الذي يُوفّره رب العمل لشغِّيلته.
والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
تأملات قرآنية في النفس البشرية (1)
تأملات قرآنية في النفس البشرية (2)